لن يبقى الحلم حيث تركته، لقد تغير كثيرا.. أبتعد ربما أو أقترب. كل منا يعرف متاهاته في واقعه ويتقن أساليب ضياعه بها. أخر شئ تسطيع أن تتأمله هو نفسك. صورتك الحالية لن تقترب مهما حدقت بها.
أغيب أمام وجهي في المرأة ولا أستطيع تحديد ملامحي بدقة، أنا فقط أرى الزمن! نعم.. الزمن يطل علي.. وجهى نافذة شديدة الشبه بي ولكنها تنفتح على دروب مدينة أخرى.. آرى بيوت عنيدة، تتعارك في الأفق المشحون بالضباب.. جدران الطرقات أكلها ملح الأيام وغبار الأزل.
عند نافورة يابسة، يلعب طفل حافي القدمين.. يجمع الأغصان اليابسة ويغني للشجرة الوحيدة.. صوته يرن كالصدى الغائر في باطن الذاكرة.. أراقبه في صمت وهو يجول في عالمه بلا أحزان.. مازل كما كان.. جسده الضئيل وشعره البني والنماشات التى تغطي أنفه.. لازل يتحسس الحوائط بصبر كأنه يبحث عن كوة مسحورة.. يعلق عينيه بالسماء وكأنه يقيس المسافات بين السير والتحليق.. يحلم برمال الشاطئ رغم أن البحر أبعد من كل ما قطعه من مسافات.. يحلم بالتوت الأحمر رغم أن الشجرة قد ماتت في مكانها من قبل أن يولد بسنوات.. يحلم بشرفة تطل على البراح رغم أن بيوت المدينة قد سدت الفراغ.. يحلم بالمطر الناعم رغم غياب السحاب.. يفتش عن طائر صديق يسير معه في الطرقات.. يتمنى لو يراني ذات يوم.. يتمنى أن أحكي له حكايات غريبة.. يريد أن أروى له عن أسفاري والبلاد التي زرتها.. كم من طرقات الأمطار عبرت؟.. في أي مدينة تلاشيت؟.. يريد أن يعرف قصة حبي الغريبة ويسرح فيها..هل أصبحت كاتبا مشهورا أم لا؟.. أنه ينتظرني لأروى له الواقع البعيد بينما كان يغني للشجرة ويجمع الغصون اليابسة من الدروب الصامتة.
أتطلع إليه ولكنه لا يراني.. لا أعرف عما سأحكي له؟.. لا أعرف إن كان الواقع يشبه خياله؟.. أنا قد ضعت منذ سنوات في واقعي ولم أعد أعرف هل حكايتي سترضي إنتظاره الطويل؟ لم أعد أعرف كيف أميز بين رمال شاطئ أحلامه ورمال الشطآن التي عبرتها؟
بالرغم من أن كل مالديه كانت أحلام تلو أحلام، إلا أنه كان يعرف تماما شكلها.. يعرف كيف يصفها.. يعرف كيف يبنيها ويسير فيها. أما أنا فقد كنت غائب عن كل مالمسته في الحقيقة وسرت فيه. لقد أتقنت ضياعي في دروب الواقع بينما كان هو يستدل على كل شئ في أحلامه.
يرن صوت الغناء في جوف الذكريات.. يرن من البعيد.
ياسر أحمد