كم كانت مفردات الطفولة بسيطة، كنت أخرج لألهو في أي وقت وأي مكان وكم كانت تسعدني تلك الأشياء البسيطة التي أتبعها، كنت أسير خلف المطر في الطرقات من شارع إلى شارع وأشعر بأن هناك شئ في المطر يجعل من الكون عالم سحري كعالم القصص في الكتب التي كنت أقرأها.
بلل الأرصفة يعكس صورتي وشجر الصفصاف في شارعنا يكسوه المطر، ألهو بلا وجهة متعقبا المطر، أتركه يبللني وتبرد قدمي ويرتجف جسدي الضعيف فأعود لأحتمي بلحاف جدتي الدافئ ورائحة البن على السبرتاية الممزوج برائحة الخبز الساخن بموقد الحطب، تأنبني على إبتلالي ثم تسألني كعادتها إن كنت جائعا ولا تنتظر الإجابة، تحضر لي وجبة ساخنة وكوب شاي.
أتسلل إلى غرفة عمي حيث تغني فيروز “حبيتك بالصيف.. حبيتك بالشتا” وعمي غارق في الرسم بجاور النافذة المكسوة بقطرات المطر، أطالع خط الفرشاة على اللوحة وأعيش في اللوحة، يرسم مقهى فأمشي فيه وأجلس على مقاعده، يرسم وجوه فأتخيل حديثا يدور بينهم ولكن ما أن تصل فيروز إلى ذلك المقطع “فتحت الرسالة.. حروفها ضايعين.. ومرقت أيام وغربتنا سنين.. وحروف الرسالة محيها الشتي” فأحزن، لا أفهم ماذا كانت تعني تلك الكلمات ولكني كنت أشعر ساعاتها بحنين ما حزين، أسرح متخيلا تلك البنت وشكل بيتها العتيق وهي تسير تحت المطر والموسيقى تهدر.
أفرح عندما يعطيني أبي جنيه، أبتاع به مغامرة جديدة للمغامرون الخمسة “تختخ وعاطف ومحب ونوسة ولوزة”، أسهر طيلة الليل أقرأ وأحاول حل اللغز معهم. ذات يوما قررت أن أذهب ولأول مرة إلى المعادي فأخذت المترو إلى هناك، أسير في طرقات الحي وحدي وأتخيل أني واحد من المغامرون الخمسة، أتحدث معهم ونجوب في شوارع المعادي متقفين العلامات لحل اللغز.
أتذكر أول درجة أمتلكتها، كان لونها أحمر وعندما أحضرها عمي، وضعتها في غرفتي إلى جوار السرير ونمت وأنا أنظر إليها وقلبي منتشي من الفرح، أحلم بتلك الأماكن البعيدة التى ستأخذني إليها تلك الدراجة والرياح التي ستسابقني في الطرقات.
كنت أتمني أن أجد قرش الحظ وأصير غنيا مثل عم دهب، كنت أحلم بأن يغلقوا المدرسة ولا يفتحوها أبدا، كنت أحلم بأن يكون لدي حذاء جديد، كنت أحلم بأن أستطيع يوما ما أن أتسلق شجرة التوت الكبيرة، كنت أحلم أن تكلمني تلك الفتاة ذات الشعر الأسود الطويل التي كانت تسكن في شارعنا ولا تظهر إلا في شهور الصيف.
مفردات الطفولة بكل أحلامها وأمنياتها كانت بسيطة وحتى عندما أتذكرها أعود أشعر بنفسي بسيطا منحلا من عقد الحاضر وعالمه. كل شئ يكمن هناك في مفرادت طفولتي، ظل بسيط ورائق وعميق ولا يتبدل مهما سار بي العمر بعيدا.