March 4, 2019 Yasser Ahmad 0Comment

يبقى الغريب وحيداً في محطات لا يعرفها..

ينسى أسمه قليلاً ولا يحرك ساكنا.. عندما تشتد الريح فجاءة، تعتصره البرودة ويترنح مرات ومرات مثل أشجار الخريف. هو وحده هنا في تلك المحطة التي لا يعرفها.

ليس عليه أن يتذكر أسمه، ولا أخر كتاب قراءه، ولا حتى حنينه لذكريات بعيدة ودافئة.. عليه فقط أن يحتمل رياح نوفمبر القارصة التي عصفت بالمحطة. لا شئ سيصمد أمام هذا الخريف.. ورق الشجر سيتدافع في الهواء.. المقاعد الخشبية القديمة ستأن.. الأسقف ستتزحزح من أماكنها.. حتى ساعة المحطة الكبيرة ستتوقف عقاربها قليلا في مواجهة الريح.

هو وحده ولا شئ في تلك النواحي يعرفه.. يحكم المعطف على جسده المتعب من السفر ويضغط قبعة على رأس لا يتذكر شيئا. ذاكرته صارت بعيدة.. لم يعد يحفظ الطرقات في متاهة ذاكرته كما كان يفعل من قبل.. شيئاً ما حدث ذات يوما، ومن ساعتها لم يعد الوصول إلى ذكرياته أمرا مألوفاً.

في البداية ظن أن الأمر مؤقت.. كان يتطلع نحو الأضواء الخافتة ويقول ربما تلك هي ذكرياتي ولكنها صارت بعيدة.. ظن أنها ربما ستعود وتقترب ولكن مع مرور الأيام، عرف أن تلك الأضواء ليست ذكرياته.. لقد كانت مجرد محطات بعيدة على طول خط القطار.

هل فقد ذاكرته؟ يتطلع نحو حذائه.. يدخن سيجارته.. يدندن لحن ثم ينتبه فجاءة. هذا اللحن لموسيقى الجاز. أنه مازل يحفظه. ربما لم يفقد ذاكرته.

يفكر ثانية ويحاول جاهدا أن يتذكر إن كان يتذكر..

تضربه الريح في نفسه ويحمله اللحن لنفس النقطة البعيدة في داخله.

ربما لم يفقد ذاكرته قط..

لقد كانت ذاكرته موجودة. أنها المحطة التي كان يجلس عليها منتظراً.

يهبط الظلام بكل ثقله.

لم يعد مهما أنه قد أكتشف أن المحطة التي يجلس عليها ليست سوى ذاكرته.. لم يكن يعنيه أنها موجودة.. لقد كان يتطلع إلى حيث يمتد الطريق كخط غامض يضيع في المدى المظلل بالأشجار.. أنه في إنتظار الريح. هذا كل ما كان يخشاه.

ستعصف الريح به وسيرتعد تحت وطأة البرد.. ستهب من الغرب، من وراء البحيرات المتجمدة في بلاد لا تعرف سوى سماوات رمادية.

كم كان عمره الآن؟ كم مدينة مر بها؟ من هم الغرباء؟ من كانوا؟.. لا يذكر شيئا وكأن كل الأسئلة النابضة في صدره، لم تنجو على أرصفة المحطة الباردة.

لم يتبقى شيئا من الزمن.. يشعل سيجارته الثانية ويباغته صوت الريح قادما من وراء الغابات المظلمة. عليه الآن أن يفكر بسرعة.. عليه أن يبحث عن طريق مختصر داخل ذكرياته.. عليه أن يبحث عن ملاذ آمن لا تصل إليه العاصفة..

باقي من الزمن لحظات قبل أن تقتلع الريح سقف المحطة وتطيح به من فوق مقعده.. باقي من الزمن لحظات قبل أن يضيع في المدى البارد وتتلاشى المحطة للأبد.. باقي من الزمن لحظة واحدة.. لحظة ولكنها كافية.

يعرف أين خبأ سره.. يمد يده في جوف المعطف ويخرج ذلك الشئ الصغير.. أيقونة صغيرة كانت تعلقها حول رقبتها.. لقد نسيتها في غرفته ذات يوم.. يحكم قبضته على الأيقونة ويدع الريح تضربه.

كل شئ صار هادئا تماما.

بينما كانت تعلو العاصفة ويزمجر البرد وتنعدم الرؤية ويتطاير كل شئ في الهواء.. كان هو يستمع لصوت الموسيقى التي تدندن داخله.

لا شئ يعنيه الآن..

دع نوفمبر يمر..

سيأتي ويذهب وحده.