لقد وقعنا في الفخ، وها قد أنتشر الخبر في المقهي أنتشار مدويا، وعندما وصلت في المساء التالي تم أستقبالي بأبتسامات عريضة متلاحقة وسلامات وتحيات فيما يشبه عرض تمهيدي، سيعقبه حتما خطة ما تم تمحيصها جيدا قبل حضوري. تجاوزت الأبتسامات العريضة والتحيات الموحية محاولا تفادي النظر في أعينهم. تلك كانت مهمة مستحيلة، لأن الجلسة ستطول لثلاث ساعات قادمة أو ربما أربعة إذا كان المزاج العام جيدا. لم تنقضي سوى بضع دقائق من التربص، وما أن تجرعت قدح الإسبريسو، وتأكدوا من حصولي على الجرعة المناسبة من الكافيين، حتى ألقى الحاج كمال السويفي نظرة مطولة بإتجاه الدكتور جورج الصايغ ثم قال مقولته الافتتاحية
“في جواسيس بيننا”
تطلع الدكتور جورج الصايغ مستفهما وأنتظر غمزة الحاج كمال حتى يومئ موافقا ويرد قائلا
“الواحد لازم يخاف”
يتطلع الحاج كمال نحو خط المكواه الذي يخط سرواله الصوف ليتأكد من دقته ثم تمعن جيدا في حذائه الإيطالي ليتأكد أنه لم تعلق به ذرة تراب. كل شيء يجب أن يكون مثاليا بالنسبة لأناقته وقدح قهوة. يأتيه الإسبريسو في فنجانه الخاص مع نصف قطعة سكر ومعلقة فضية صغيرة وكوب ماء من الكريستال تم تنظيفه بعناية بالغة. يمضي في محاولاته الشغوفة بأثارة الشغب ويوجه حديثه تجاه اللواء فخري، الذي لم أعرف قط أسمه الأخير، ولم أسأل. يقول الحاج كمال
“في أسرار بتتسرب يا سيادة اللواء! أيه رأيك في الكلام ده؟”
يأخذ اللواء نفسا من سيجارته قبل أن يلتفت في حركة سينمائية نحو الحاج كمال ويقول بشكل مقتضبا كعادته
“دا كلام خطير”
يتلقف الحاج كمال هذه الكلمات كمن تلقى هدية ويخبط بكفه على ركبته وكأنه يتوعد قائلا
“أنا كنت شاكك من زمان”
يتطلع نحوهم الدكتور عبد القادر حسين من وراء نظارته السميكة قبل أن يقول بكل رصانة
“مش معقول!”
لا أعرف أن كان يقولها استنكارا، أم يجاريهم في الاستنتاجات. كان مختلفا عنهم، والأكثر ثقافة والأعمق تحليلا. يرتكن بجسده الضئيل على الطاولة قبل أن يمسح صلعته بمنديل قماش اخرجه من جيب معطفه الأسود. تابع قائلا
“أنت عرفت الخبر من مين يا حاج كمال؟”
يرد الحاج كمال بثقته المعهودة بنفسه
“مفيش حاجه بتستخبى عليا يا دكتور عبد القادر”
يتطلع نحوه الدكتور عبد القادر بنظرة تشكك قبل أن يقول عن شخصا ما
“هوا.. مفيش غيره”
لم يكد ينهي كلماته حتى سمعنا الضجيج المعتاد لوصول باقي الشلة. يقف المهندس حسين الطوخي عند ماكينة الأسبريسو ليسب العاملين الواحد تلو الأخر، وكالعادة تنتهي وصلت السباب بضحك العاملين. يتبدل وجهه من الجدية إلى الهزل في وصلة من التمثيل تصاحب دخوله المسرحي الصاخب. يأتي في صحبته سيادة المستشار أسامة النادي وخلفهم يدخل الدكتور الجامعي والسياسي اللامع محمد عز الدين. يقوم سيادة المستشار بمصافحة الجميع قبل أن يخصني بسلام حار ويضع كرسيه إلى جواري. أقول لنفسي، لقد أختار موقعا مناسبا لبدأ المحاكمة. يتقدم السياسي الداهية الدكتور محمد عز الدين بثقة نحو كرسيه المفضل في المنتصف حيث الأضواء، يقوم بعدل كرافته الباهظة ويتطلع من حوله طالبا فنجان الكابتشينو. يسود الضجيج المكان وتنطلق أحاديث كثيرة جانبية بين الحاضرين يتخللها تبادل تحيات حارة وأسئلة عن الأحوال. أخيرا، وبتقدم بطيء مقصود، يصل المهندس حسين الطوخي لساحة المقهى ويتبادل التحيات والسلامات مع الجميع تاركا لي أخر سلام. يمسك بيدي وهو يرسم ابتسامة واسعة ثم يقول بخبث وبصوت مسموع ومبالغ فيه
“أهلا أهلا تشرفنا بحضورك النهاردة يا سيادة الأديب”
يتهلل وجه الدكتور عبد القادر وهو يهتف قائلا
“أنا قلت مفيش غيره!”
يلتفت المهندس حسين الطوخي نحو الدكتور عبد القادر مواصلا اللعب
“ليه كده يا دكتور عبد القادر؟”
يرد الدكتور عبد القادر حسين مستنكرا
“ليه أيه يا حسين؟”
يقوم الحاج كمال السويفي على الفور بالسيطرة على الحوار وإدارة الحديث بذكائه البديهي. يلقي بنظرة النسر الثاقبة تجاه الدكتور عبد القادر وهو يقول
“الله؟ يعني أنت كنت عارف من زمان يا دكتور ولا أيه؟ الموضوع كده طلع معقد. أنا قلت المحاكمة من أول مداولة. طلع فيه فريق دفاع”
يقول الدكتور عبد القادر مبتسما
“أيه يا سويفي؟ أنت نصبت المحاكمة خلاص؟ دا سيادة المستشار مقالش حاجه لسه”
الجميع ضدي، وقد بدأت الست تغني وصلتها الأولى وتشدو. يتلقف الحاج كمال السويفي كلماتها ويردد “كان صرحا من خيال فهوى”. حينها يرد عليه المهندس حسين الطوخي قائلا
“ومتصورلي شايل الجايزة مع ساويرس. دا قبض منه فلوس كتير على كده”
هنا يتدخل الرجل الوسيم ذو الشعر الأبيض والبدلة والنظارة الأنيقة، النجم الساطع والسياسي الدكتور محمد عز الدين. يقول موجها كلامه للمهندس حسين الطوخي
“أنا أكتر واحد مفروض يخاف”
يواصل المهندس لعبه ويحفز الأجواء قائلا
“في بلاوي هتطلع ويمكن يجرسنا”
يعدل الدكتور جورج الصايغ جلسته ويبدو عليه التوتر كعادته بينما ينفس اللواء فخري دخان سيجارته في صمت. يتطلع الحاج كمال السويفي نحو الجميع ويسحب البساط قائلا
“أنا رجل ما بخافش من حاجه! أنا زعلان أنه عشر سنين بيضحك عليا ومعرفش أنه جاسوس”
يرد المستشار أسامة النادي قائلا بحزم
“المشكلة فيك يا حاج كمال أنت والباشمندس حسين، مش أنتو اللي قولتوا دا صاحبنا وضمتوه للشلة. أنا من أول يوم وبقول عليه سقراطيس”
يضحك الجميع لما عرف عن استخدام المستشار لأسماء الفلاسفة ككناية عن الأشخاص. يتابع المستشار دون أن يضحك راسما وجه حياديا ويقول
“المشكلة أنه شافني قالع في السونا. منك لله يا حسين!”
ينفجر الجميع ضاحكا ويومئ المهندس حسين الطوخي قائلا
“لسه كنا في الجيم والسونا يوم الجمعة”
هنا يتلقف الحاج كمال السويفي الحديث قائلا
“وكمان بتقلع قدامه يا حسين؟ ما أنا قلتلك خد حذرك منه”
يرد حسين الطوخي بهزله الذي لا تميزه من جديته نظرا لقدارته التمثيلية المتمكنة
“مش قلتلك تعالى معانا؟ كان شافنا كلنا”
يرد المستشار بحزم
“أنت مدان أنت كمان يا حسين ولازم تكشفلنا الملابسات. منك لله يا حسين!”
يدافع المهندس حسين عن نفسه هاتفا
“أنا يا أسامة؟ يا سيادة المستشار هو صاحب الحاج كمال السويفي من أيام ما كان عاوز يكتشفه”
يرد الحاج كمال على الفور
“أنا؟ أنا كنت بشوفه ماسك كتاب دايما وقاعد في الزواية مستخبي تحت الكاب، قلت أجيبه وسطنا علشان أكشفه”
يرد الدكتور محمد عز الدين بخبث مبتسما في محاولة استفزاز الحاج كمال
“أهو بدل ما يتجسس من بعيد، يتجسس عن قرب”
دائما ما تنجح مناوشاته مع الحاج كمال السويفي الذي رد بدوره
“أهو والله اللي بيخاف هو على رأسه بطحه”
يرد الدكتور عبد القادر من موقعه قائلا بذكاء معتاد
“الأسرار اللي هنا ممكن تملى كتابين تلاته”
يرد المستشار متهكما
“قول خمسه سته! منك لله يا حسين! بقي يا رجل أقولك تجيبلي عكاوي، ما لقيش فيها ولا حتة لحمة. كلها عضم؟”
يرد المهندس حسين قائلا
“يا سيادة المستشار أنت لسه فاكر، دا كان في الصيف في الساحل! هجيبلك وأحنا مروحين. خلينا دلوقتي في المصيبة اللي أحنا فيها”
ينطق الدكتور جورج الصايغ أخيرا
“هو أنت عرفت منين يا حسين؟”
يرد الحاج كمال السويفي مستهزأ
“ما هو صاحبه على الفيس بوك. شافه يا سيدي متصور مع الجايزة وحاططلي الصورة. صاحبنا الجاسوس ده لابسلك بدلة ومستحمي. بس كان قافل الزرار التحتاني. ما بيعرفش في لبس البدل”
يضحك الجميع لما عرف عن الحاج كمال السويفي من نقده الصارم والدقيق للملابس. يشعر الدكتور محمد عز الدين بعدم الأمان فيعدل من وضع بدلته بينما يقول اللواء فخري
“ما عرفناش خد الجايزة عن أيه؟”
يقول المستشار
“سقراطيس الجاسوس لازم يجيب الكتاب علشان نبحثه ونشوف الأدلة”
يقولها ثم يستدير نحوي. ها قد تم القبض على متلبسا بعد عدة مداولات غير مباشرة. يتابع موجها كلامه تجاه المهندس حسين الطوخي
“يا طوخي قاعدلي طول النهار على الفيس بوك وما تعرفش الكتاب فيه أيه؟ منك لله يا حسين!”
يرد الحاج كمال السويفي قائلا
“لا دا فاتح الفيس بوك بس قدامه منظر بس، ما بيعرفش يستخدمه”
يرد المهندس حسين الطوخي قائلا
“لا ما أنا أتعلمت. دلوقتي بعرف أعمل لايك. لسه عامل لايك للدكتور عز الدين على الحوار اللي عامله في التليفزيون، وصلك اللايك يا دكتور عز؟”
يعلق الدكتور عبد القادر قائلا
“أيه دا يا حسين؟ في سنك ده وبتعمل لايك؟”
يرد المهندس حسين
“أنا في التكنولوجيا معنديش يا أما أرحميني. الشباب الصغير ده ما ينفعش يتساب كده لوحده، لازم أدخلهم وأعرفهم أننا برضوا بنعرف”
يأتي صوت عم سليم العجوز من وراء ماكينة الإسبريسو متهكما
“راحت عليك يا رجل كفاية عليك كده”
يرد المهندس حسين
“يا رجل أتنيل، عاملي فنجان قهوة صايص. بقالك أربعين سنة بتعملي إسبريسو ما يتشربش بس أنا ما بحبش أزعلك”
يرد عم سليم متحديا
“أنا ما برضاش اكبس البن علشان عارف أنك عجزت”
يقول حسين ضاحكا
“هو أنا لازم احترمك تاني زي لما احترمتك وأنا داخل؟”
يضحك الجميع، ولكن الدكتور محمد عز الدين يقاطع الجميع موجها حديثه نحوي
“مقالتناش يا أديب، الرواية عن مين؟”
أصمت محاولا تفادي أسلوبه المباشر ويسعفني سيادة اللواء فخري قائلا
“هو شكله مش عاوز يقول حاجه”
يرد الحاج كمال السويفي بحزم
“والله يتكلم ما يتكلمش، أنا مش هسيبه النهاردة. يا سليم، يا أسماعيل، أقفلوا الباب. الرجل ده مش هيهرب النهاردة”
أرد عليهم أخيرا وعلى وجهي ابتسامة عريضة
“ماشي، عاوزين أيه؟”
يقول المستشار أسامة النادي
“الواد ده يبعت يجيب علبة من قويدر، وبرضوا منك لله يا حسين!”
يهتف المهندس حسين الطوخي قائلا
“لا عاوزين تورته كبيرة من أم دورين”
يرد المستشار
“يا حسين يا مفتري، هتسدلنا الشرايين”
يهتف الدكتور من مكانه
“يا أسامة أنت هتاكل عكاوي وجت على التورتة؟ أحنا شرايينا حلوة يا أخي”
يتمم قائلا
“منك لله يا حسين!”
يضحك الجميع قبل أن تأتي الأصوات بطلبات مختلفة ومنها شكولاتة وبسبوسة ثم يعودوا لخيار التورتة. إقرارا للعدالة يحكم سيادة المستشار بالمبلغ الذي يجب على دفعه في التورتة، والذي كان باهظا. دفعته صاغرا لإسماعيل عامل المقهى الذي هرول بدوره لشراء التورتة والأطباق والشوك. تلك كانت الليلة التي تم اكتشاف أمري، ومعرفة الجميع بأني قد نشرت أول رواية قبل أشهر، وأني قد حصلت على جائزة. الليلة تمت محاكمتي فيها وترويج تهمة إفشاء أسرار الشلة. لم تكن تلك التهمة حقيقية، ولم يكن قد خطر على ذهني قط الكتابة عنهم يوما ما، ولكني بعد سنوات قررت أنها تهمة جيدة. بعد أن مضى ما مضى من سنوات، وضاع المكان وأصحابه، قررت أن أتذكرهم، وأكتب عنهم. تلك هي حكايات الإسبريسو.