يقف المؤلف على رأسه أو هكذ بدا له الأمر في البداية. لقد فقد فجاءة الرؤية المعتادة وصار كل ما يراه مقلوب. لم يفهم السبب وراء ما حدث له ولكنه تابع الموقف من موقعه وبعد حينا بدأ يمعن النظر وهو يرسم على وجهه إبتسامة. ربما قد راق له الأمر.
عندما حضر الناشر في المساء وسأل عن الرواية، تفحصه قليلا ثم ضحك. دار حول الرجل دورة كاملة ولم يقل شيئا. لم يفهم الأخير ما كان يحدث ولكنه شعر بالإهانة فخرج وهو يتمتم.
فكر المؤلف قليلا، لقد فرغ بالفعل من كتابة رواية جديدة ويحتاج لناشر ولكنه كان مثل كل الكتاب كان يمقت الناشرين، كلهم يفرضون شروطا على أشياء لا ينتجونها، يقفزون فوق النص كأنه غنيمة جاهزة ثم يسلمنوه لمحررين من مدعي االحنكة الأدبية لبعلقون على النص.
تخيل روايته وهي مصفوفة في متجر مكدس بألوف الكتب وضحك. تخيل القراء وهم يتجاوزون روايته وضحك.. لم يعد كل هذا يهم.
تبدو أوراق الرواية كأنها صندوق مفتوح. انتقى ورقة وشرع يقرأ ما كتب وبعد أن انتهى لم يفهم لماذا كتب هذا؟
لم يبدو الأمر واضحا إليه ربما لأنه كان قد قرر أن يكتب تلك الرواية دون أن يتدخل فيها. لقد ظل يكتب طيلة الوقت دون أن يزن ما يكتبه، لقد فك السياق على أخره وترك كل شئ يمضى كما يحلو له. هذا الكلام الذي ورد على لسان بطل الرواية، حقيقي أم لا؟
يرد على نفسه بحزم “على كل شخص أن يقول ما يريد، ولماذا أريد أن أعرف؟ فليقول ما يريده”.
وضع الصفحة بحرص في مكانها بين الصفحات. خرج للشرفة يدخن وطالع السيارات وهي تمضي فوقه والطيور وهي تهبط للسماء بأسفل. روادته كل الأشياء التي لا نسيها من سنين.. تذكر صوت عجلات القطار عندما سافر لأول مرة.. الظلة التي طارت في الريح.. طعم لآيس كريم على شاطئ البحر.. الفتاة التي إلتقاها عند المفرق منذ خمسة عشر عاما وأطلت نحو دفتره ثم سألته عما يكتب؟..
تذكر أول مرة جلس أمام الورق ليكتب.. تذكر خفقان قلبه مع كل كلمة تخرج، أحلام تتطاير وأحاسيس تندمج وتنسال. تذكر كل التفاصيل الصغيرة في حجرته الوحيدة الكامنة بطرف البيت، صفين من الكتب مازل عبق رائحتهم يعربد في ذاكرته، مصباح صغير على المكتب كان ينير له مساحات من خياله تبتلع مدن وطرقات وشطآن، جدران يسكنها أشخاص وهميون يتحدثون معه ليل نهار. الآن يتذكر ويتذكر وتبحر مراكبه في زمن بدأ فيه كل ما كان. لم يكن هناك شئ مقلوب في ذلك الزمن، كل شئ كان موجودا في موضوعه. كانت أحلامه تشبهه تماما.
عاد إلى الغرفة وطالع كل كتبه السابقة المقلوبة على الرف وسئل نفسه، هل كل ما قاله كان يعنيه؟ لم تجاوبه الكتب الصامتة بشئ.