لذة أن تكتشف، ذلك الجنوح نحو المجهول والخوض في خيال المغامرة…
أقف في متجر الكتب، أتطلع للمئات من الكتب وأسماء كتاب أعرفهم، وأخرين لم أسمع بهم من قبل، أنتقي أحد الكتب لكاتب لم أسمع به من قبل، أفتح الكتاب على صفحة عشوائية وأنطلق بين السطور تاركا عقلي وتحكماته المرهقة في صندوق مغلق، مطلقا العنان لهذا الكتاب المجهول ليأخذني في طيات عالمه.
أمر من شارع لم أرتاده من قبل وأسير على مهل، لا أعرف إلى أين يأخذني ولكني أتركه يحررني من وجهاتي اليومية المعتادة. على الناصية مطعم صغير يقدم مأكولات أسيوية وحول الطاولات يجلس أسيويين وأوروبين يأكلون، لائحة الأطعمة تحتوى على أطباق ماليزية وتايلاندية لم أسمع بها من قبل، أشير إلى أثنين من الأطباق تاركا نفسي لشئ غير مألوف أتذوقه على مهل بعصي خشبية. أواصل رحلتي في الشارع الذي يقودني لأخر ومنه إلى مرفأ نهري فأجلس مع كتابي الجديد وأتطلع لزواية جديدة للنهر لم أراها من قبل، أقضي ساعة هنا أراقب السماء والماء وبينهم سطور الكتاب، أشعر بخفة الهواء وبدفق الماء في عالم يتسلل على مهل.
أعود للطرقات تاركا نفسي للمساحة التى أمامي وليس للمساحة التى في داخلي، أترك الأشياء التى لا أعرفها تأخذني خارج أفكاري المتصادمة في دائرتي الداخلية. كم ندور في ذاتنا حول تلك الأشياء المعتادة، كم نتوارى خلف أفكار نكررها كل يوم، صورتنا التى نحاول فرضها على أنفسنا وعلى الأخرين، هذا الفخ اليومي الذي لا نخرج منه. كيف أبدو أمام تلك الفتاة التى قابلتها لأول مرة؟ هل أثرت أعجابها؟ كيف سأحاول رسم صورتي أمامها؟ مديري الذي أحاول إستراضائه، هل تقاريري الأخيرة ستنال رضائه؟ هل سيتخلون عن خدماتي؟ كيف سأرتب لحضور تلك المناسبة العائلية؟ يجب أن أكون أكثر لباقة في حضور العائلة، ويجب تجنب الخوض في بعض الموضوعات الشائكة، كيف تبدو صورتي أمام أصدقائي؟ كيف أبدو أمام ذاتي؟ هي تلك الأسئلة اليومية التي أعتدت العيش معها وتجرني نحو متاهات لا متناهية.
هذا المقهى القديم يجلس عليه رجال يلعبون الدومينو، أجلس على مقربة منهم ثم أنضم إليهم بعد أن وجهوا لي الدعوة، ألعب معهم وأنا لا أعرف أسمائهم، أترك نفسي للمغامرة الجديدة ونتبادل القفشات والنكات وكأننا أصدقاء منذ زمن. لقد نسيت كل شئ على هذا المقعد ولم أعد أفكر سوى في أن أكسب تلك المبارة الحامية.
في حارة جانبية تصدمني الكرة فيعتذر لي الصبية، أجلس على الرصيف المجاور لأتابع المبارة مع بعض المشجعين ويدور بيننا حديث عن كرة القدم، أدعوهم إلى مشروب مثلج فيدعوني إلى وجبة “كشري”، يحدثونني عن الحي الذي أزوره لأول مرة وعن فريق برشلونة الذي فاز أمس وعن هدف “ميسي” ومهارته.
حبال أفكاري المشدودة كل يوم ترتخي، وأستبدلها بأشياء أخرى جديدة، أبحر في عوالم أخرى غير التي أستهلكتها. ما أجمل أن تترك نفسك للريح، للبحر، للشارع وللأشياء التي لا تراها. في غير المعلوم تكمن حياة. هناك في البعيد أشياء تتشكل، تفتح حدودك لتضم أفاق أوسع.
الإكتشاف هو أن تودع عالمك المعتاد وتخرج لأخر، هو أن تسير عكس إتجاهك اليومي وعكس ما عرفته. مفرداتك اليومية أصابها عطب الرتابة، تزاحمت فوق بعضها وتشابكت، كل ما كنت تظن أنك تملكه، صار مع الوقت يمتلكك دون أن تشعر. إحتياجاتك المعتادة تسيطر على يومك، ترتب وقتك وتشكل أفكارك.
أقابلها للمرة الثانية وأجلس أمامها مبتسما، تسألني بفضول أنثوي عن أشياء كثيرة، فأجد نفسي غير مهتم بصورتي أمامها، أحكي وكأني لا أعرفني وأترك لها كل الأبواب مفتوحة لتختار، لا أمارس لعبة التوقعات ولا أحدد ما الذي أريده منها، كل شئ أقوله هو مغامرة لا أحاول السيطرة علي أبعادها، كأني أجلس خارجي تاركا الأشياء كما هي.
أصدقائي يثرثرون وأنا أتابع في صمت، يسخرون مني وأنا فقط أبتسم، كل يقولونه يبدو لي ممتعا، سخريتهم تحمل في طياتها أشياء لم أشعر بها من قبل لأني كنت أقاطعها، الأن أترك لها الزمام فأرى فيها دفء أثير وحميمة الصداقة الحقيقية، سخريتهم تكشف حبهم لي في صورة لم أراها من قبل.
ما أجمل أن تترك نفسك لتطفو فوق نفسك، لتمر خفيفا بلا تحكمات أو توقعات. ما أجمل أن ترى دون أن توجه عيناك، سترى أبعد. ما أجمل أن تستمع حتى النهاية، ستفهم أعمق. ما أجمل أن تكتشف الجديد الذي لم تعرفه من قبل.
موسيقى الغجر البلغار كانت تصدح وأنا أطالع موقع للوحات فنان مجهول. تلك الموسيقى الغريبة أكتشفتها اليوم مصادفة مع لوحات ذلك الفنان.. كنت أشكل ذوق جديد أكتشفته للتو.
ياسر أحمد
السكون هو ضجيج الصامتين ، وأنيس خلوتهم .. ما أجمل ارتياد ماوراء العقل والمنطق لتتحرر من نمطية المعتاد .. أحسنت فأبدعت
تحياتي
محمد سالم